فاحت ريحة النعنع، وطلع البخار من الابريق اللي حطته بثينة على الغاز بعد ما صحيت قبل صلاة الفجر، حبت تغلي شاي زي عادتها، كانت التلفونات قليل ما بتشتغل في غزة، والشبكة على طول واقعة، وكمان الكهربا كانت اشي نادر، في هيك ظروف، كان الراديو بديل برتَكن عليه، عشان بيشتغل على بطاريات.
مصطفى جوز بثينة طلع من الحمام ودخل على المطبخ وسأل بثينة: “شو فيه أخبار؟”. فردت: “ضربو بيت عيلة الدلو!”. الضربة هادي كانت موجهة للقيادي في جناح حماس العسكري محمد الضيف، أو هيك ادعى الجيش الاسرائيلي. بس بدل ما يغتالوه هو، انقتلت مرته وابنه اللي عمره سبع شهور، وكمان ست عمرها تمنية وأربعين سنة وولادها الاتنين غير الخمسطعشر واحد اللي تصاوبو.
قدري ونصيبي شو ما كان!
8 أشخاص انقتلوامن حد ما بدا العدوان على غزة كان مصطفى اللوح، وهو زلمة طويل ونحيف وعمره واحد وستين سنة، بينام في سقيفة صغيرة بين بيتين. واحد من البيتين كان عايش فيه رأفت ابن مصطفى وعيلتو. أما في البيت اللي على الجهة التانية فكانت عايشة بثينة مرت مصطفى وولادهم. امبارح بس خلصت هُدنة الخمس أيام.كان مصطفى حاسس إنه الحرب قربت تخلص. لما أذن مؤذن دير البلح للصلاة، قام مصطفى من النوم. كان عنده عادة إنو يصحى قبل الآذان من حد ما كان شب، بس بعد ليالي أرق وضغط وخوف طويلة كان مصطفى كتير تعبان.
إيمان بنت أخوه لمصطفى واللي عمرها سبعتعشر سنة، قامت هي كمان عشان تصلي الفجر على الوقت. كان بيتها بعيد عن بيت مصطفى خمسين متر تقريبا، وموجود على طريق رملية. هي كمان كان عندها مشكلة تفيق من النوم وكان بالها كتير مشغول بمستقبلها بالرغم من الحرب. إيمان كانت شاطرة كتير في الدراسة، وكان مفروض تختار قريبا تدرس بأي جامعة، على الأغلب كانت بتفكر تدرس شريعة وعلوم إسلامية، قامت من تختها بعد ما خلص الأذان وبعد ما كانو خواتها مخلصين صلاة. أمها اللي صحيت أبكر منهم شغلت الراديو وآخر خبر فيه كان عن تفجير بيت عيلة الدلو
أحمد، ابن مصطفى من زواج تاني، كان ينام في بيت رأفت. كان لازم يروحو على شغلهم الصبح بدري. الساعة ستة الصبح أحمد وأخوه رأفت، مش الشقيق، بكونو في طريقهم للسوق في خان يونس عشان يشترو بطيخ ويجيبوه يبيعوه في دير البلح. كل الصيف وبكل يوم من أيام الحرب كانو التنين يسافرو على طريق صلاح الدين اللي بمتد على طول قطاع غزة. أغلب الأيام كان الطريق فاضي لأنه السواقة عليه خطرة. لما يرجعو على دير البلح، رأفت وأحمد بحَملو البطيخ على عرباية وبدفعوها عبر الطرق الرملية وهم بنادو على البطيخ بمكبر صوت.
رأفت كان موظف في السلطة الوطنية الفلسطينية. زي آلاف غيرو من الغزيين موظفين السلطة اللي مقرها رام الله في الضفة الغربية، بطًل رأفت يروح على الشغل من سنة 2007 من حد ما حماس فازت في الانتخابات النيابية، وبعدين استلمت زِمام الأمور في غزة. كل موظفين السلطة احتفظو برواتبهم الضئيلة اللي ما بتكفي حدا زي رأفت يطعمي ولاده. رأفت كان مخلف تلات أولاد: مصطفى ابنه البكر عمره تسع سنين ومسمى على إسم جده حسب العُرف في فلسطين وكمان ولد وبنت: ميسرة وعمره تمن سنين وفرح وعمرها ستة. مرت رأفت نبيلة كانت حامل كمان. رأفت لقي حالو مجبور ياخد قرض عشان يواجه كل هالظروف المادية الصعبة اللي حواليه. كان مصطفى أبوهم قلقان على ولاده أحمد ورأفت بهداك اليوم، وطلب منهم ما يروحو على خان يونس، بس الولدين واللي واحد منهم كانت عندو عيله ما سمعو كلام أبوهم. بوقت الحرب كان صعب على الغزيين يعرفو يقَدرو أو يحسبو شو اللي أخطر: انه الواحد يضَل بالبيت ولا يطلع بره؟ معرفة الاحتمالات كانت مستحيلة.
محمد اخو رأفت الصغير كان كتير يساعد اخوته في بيع البطيخ، حتى انه حوش مصاري من شغله معاهم في الصيف. بس الوضع في غزة خلاه يحس انه مخنوق. مرات كان يبين عليه انه استسلم. محمد رفض يتجوز وضلو يقول انه مافيش معنى ومش منطقي لأنه هيك هيك رح يموت. لما ولاء اخته التوأم تزوجت كانت هادي أول مرة بتفترق طرقهم في الحياة. ولاء طلعت من بيت أبوها وبدت حياتها مع زوجها ومحمد ظل في البيت. زي حال نص أهل غزة، كان محمد أغلب الأوقات معندوش وظيفة ويقضي أيامه يمشور في الحارة. أما ولاء فكانت لما تتطلع من الشباك تشوف أخوها التوم بمشي في الشارع فتزعق عليه: “اطلع فوق عندي تعال نشربلنا فنجان قهوة”. فهو كان يرد عليها: “انتي بتعرفي اني كسول ومش رح أطلع على الطابق التالت”. ولاء كانت تبتسم على هادا الطقس الزغير المكرر بينهم في كل مرة تطلب منه يطلع عندها. بالآخر كانت تنزل وتقعد معاه في الحاكورة.
اشترى محمد خزانة أواعي وتخت جداد لغرفتو بالمصاري اللي حوشهم من بيع البطيخ. بس طول الحرب كان ينام على فرشة في كوريدور البيت لأنه موقع استراتيجي بعيد عن كل الشبابيك والبيوت اللي هي أهداف محتملة للقصف الإسرائيلي.كانت أمه بثينة وأخته وفاء وأخوه مؤمن ينامو في الكوريدور كمان. بس بعد هدنة وقف إطلاق النار، محمد فَقَد صبره وأصًر إنه يجرب تخته الجديد. قبل ما يروح ينام أمه ترجتو يضل وينام معهم في الكوريدور. محمد رد عليها:” يما رح ألقى قدري ونصيبي شو ماكان، أنا بدي أموت”، حكى هيك وراح على غرفته.
اليوم اللي صار فيه القصف
إيمان صحيت من النوم متأخرة شوي عشان تصلي الفجر. كانت واقفة بنص غرفة النوم وخواتها كانو قاعدين حواليها. كانت الكهربا مقطوعة ويادوب كانو قادرين يشوفو بعض. مصطفى وبثينة كانو في المطبخ بيحكو عن اللي صار في عيلة الدلو.
محمد كان مستمتع بتخته الجديد ونايم في غرفته.
مؤمن ووفاء كانو لسا نايمين في الكوريدور بعيد عن الشوارع والبيوت التانية.
أحمد ورأفت كانو بعد شوية مفروض انهم يطلعو برحلتهم الخطرة ليشتروا بطيخ، بس هلأ كانو تعبانين من الشغل المرهق ونايمين في هالساعات الأولى من الصبح.
طيار اسرائيلي بيرمي قنبلة وزنها نص طن!
كأنه كتلة خرسانة كبيرة عبرت من الشباك على الغرفة اللي كانت ايمان تصلي فيها. بعدت عن راس أخت ايمان بشوية سنتمترات وتوجهت مباشرة على ايمان اللي ماتت بعد كم يوم في المستشفى.
الانفجار كان كتير كبير لدرجة انو الناس وشقف من الخرسانة طارو في كل الاتجاهات. كلشي طار من شدة الانفجار وخصوصا الأولاد الصغار. جسم ميسرة وقع على سطح قريب من بيتهم، جسم مصطفى الحفيد وقع على بلكونة، اما فرح فوقع جسمها على شجرة في ساحة بيت الجيران وتكسرت غصون الشجرة. كل حدا كان موجود في بيت رأفت: الولاد ونبيلة ورأفت وأحمد انقتلو، القنبلة وقعت مباشرة عليهم.
لمين الشهدا؟
مصطفى قال انه مكنش في اي قتال في المنطقة اللي جنب بيته في دير البلح وانه مافيش ولا بيت تاني تم استهدافه غير بيتهم. غير هيك، ولا حدا من عيلتو كان عضو في المقاومة حتى وإذا انلفت جثامينهم بأعلام حماس الخضرا. هلأ في صورة لمحمد وهو حامل بارودة معلقة على الحيطة بغرفة الليوان بشقة مستأجرة جديدة مطرح ما اللي نجو من عيلة اللوح عايشين. جنازة تمنية من أفراد العيلة كانت مكلفة وخلال الحرب كانو حماس وفتح – الحزبين السياسيين الرئيسيين في فلسطين – بتنافسو مين يدفع تكلفة الجنازات للناس اللي انقتلت في الحرب. اللي كان منهم يقدر يقنع العيلة إنه يدفع تكاليف الجنازة والدفن كمان كان يلف الشهدا براياته ويطبع بوسترات للشهدا باسمه على أساس انو اللي انقتلوا هدول هم شهداء هادا الفصيل السياسي.
مكنش مصطفى معاه مصاري كفاية انه ينصب خيمة عزا للي بدهم يعزو ولا يستأجر كراسي ولا يقدم ضيافة. مسؤول فتح في المنطقة كان معروف انه بيوعد يغطي كل التكاليف بس كان ياخد كلشي بالدين وما يدفع أبدا. بالأخير تراكمت عليه الديون وحزب فتح رفض يدفعله ديونه فمسك حاله وهرب من غزة كلها. مصطفى قال: “مكنش عنا خيار، لما حماس عرضت علينا تدفع تكاليف الجنازة وافقنا وخليناهم يرفعو الأعلام الخضرا! بتسأليني عن البارودة في إيد محمد؟ كل الناس عندها صورة زي هيك في غزة!” جاوب مصطفى وهو بيهزكتافه باستهجان من السؤال.
الأشخاص اللي انقتلو في العدوان في دير البلح
20 أغسطس 2014
- رأفت مصطفى اللوح 31 سنة
- نبيلة عيد سلامة اللوح 29 سنة، زوجة رأفت الحامل
- مصطفى رأفت مصطفى اللوح 9 سنين، ابن رأفت ونبيلة
- ميسرة رأفت مصطفى اللوح 8 سنين، ابن رأفت ونبيلة
- فرح رأفت مصطفى اللوح 6 سنين، بنت رأفت ونبيلة
- أحمد مصطفى اللوح 21 سنة، ابن مصطفى
- محمد مصطفى اللوح 21 سنة، ابن مصطفى
- ايمان يونس قاسم اللوح 17 سنة، بنت أخو مصطفى