انمحت! عيلتها انمحت. ميار البنت الصاخبة العفريتة بتركض رايحة جاية على غرفة الضيوف، بتشاكش المعزات ومرات تانية بتحاول تلفت نظر سيدها محروس وستها دلال الها ولو بشوية عدائية. مرات تانية بتحاول تتناغش وتوقف تاخد صورة قدام الكاميرا. هي بتفهم بس مش كتير شو صار سنة 2014 لما فقدت أبوها وأمها وأخوها الوحيد معين إبن الخمس سنين.

عيلة نبيل كمان انمحت محي، بس بعكس بنت أخوه ميار، نبيل إبن الستة وتلاتين سنة واعي تمام لخسارته. هو فقد زوجته شيرين واولادو الأربعة: غيداء ومصطفى وعبد الرحمن ودلال. نبيل وابنه بدر الدين اللي عمره هلأ سنتين هم الناجين الوحيدين بس عندهم التنين إصابات خطيرة وايد نبيل الشمال انقطعت من الانفجار.

هادا تالت يوم بعيد الاضحى ومحروس ابو نبيل وجد ميار بتمنالنا عيد سعيد والدموع بعينيه. بالنسبة لعيلة صيام كان صعب انهم يعيدو أو يفرحو بالعيد لأنه العيد تقليديا هو مناسبة بتزور فيها قرايبك أو تستقبلهم زي اخوتك وعيلهم واولادك وأحفادك. قبل سنة وشوي في صيف 2014 انضرب بيت دلال ومحروس بشظية من قذيفة. أغلب اولاد دلال ومحروس وأحفادهم كانو موجودين في البيت برمضنو على بعض وبالمجموع كان فيه تلاتين شخص بالبيت لما مدفعية إسرائيلية قربت نيرانها على بيتهم فهربو كلهم على الشارع ولما طلعو على الشارع انضربو بصاروخين بالزبط قدام باب بيتهم حسب ما قالت دلال.

تالت يوم في العيد كان بيت عيلة صيام فاضي. حكينا مع الجد والجدة بينما كانت ميار ورفيقها في اللعب معتز بركضو حواليهم. أيمن أبو معتز اللي فقد زوجته في 2014 رح يمرق علينا ويعطينا سطولة فيهم ورد. قاللنا: “هدول عشان العيد” وبعدين رح يقعد في الزاوية ساكت بينما كان محروس ودلال بتذكرو الأوقات اللي اضطرت فيها العيلة تهرب من مكانها في آخر خمسين سنة.

محروس ودلال

محروس صيام مختار العيلة بيحكي: “انا لاجئ فلسطيني من قرية العباسية، وبالوقت اللي خلصت فيه دراستي الثانوية كنت عايشت تلات حروب”. محروس عايش هلأ في رفح في قطاع غزة محل ما جيل كامل من الأطفال عايش تلات حروب بالوقت اللي خلصو فيه الروضة”. عمر محروس من عمر الاحتلال وهو ابن النكبة زي ما الواحد بقدر يقول عنو. زوجته دلال بنفس عمره تقريبا وعايشت النكبة والتطهير العرقي في التمنية وأربعين، بس الذكريات اللي عندهم عنها هي اللي قالولهم اياها أهلهم. وبعد النكبة أجا الغزو تبع الستة وخمسين والاحتلال الإسرائيلي القصير للقطاع وبعدين النكسة وحرب السبعة وستين اللي بقدرو يتذكروها بكل تفاصيلها البشعة.

لما انسألو: “إمتى تزوجتو”؟ الزوجين ضحكو من السؤال بس بعدين حاولو يدورو بذكرياتهم على تواريخ. محروس قال إنه تزوجو بعد بسنة من حرب الأيام الستة: “أيوه احنا تجوزنا سنة 1968 ودلال كانت جارتي”. العدوان الإسرائيلي شكًل ذاكرتهم وخلى اعتداءاته عليهم نقطة مركزية فيها. بيكمل محروس حكي: “السنة اللي انولدت فيها كانت بداية النكبة وفي السنة اللي فيها حرب الأيام الستة خلصت دراسة ثانوية وفي السنة اللي بعد الحرب تزوجنا”. دلال بتضيف: “صعب الواحد يتذكر، شهدا شهدا شهدا كتير بحياتي كتير لدرجة اني نسيت كم سنة مرقت علي”.

الانتداب البريطاني

لما انسأل كيف التقو أبوه وأمه حكى محروس إنه ابوه كان متجوز وعندو ولاد كبار واحد منهم كان بدو يتجوز. فراح أبوه لمحروس لعيلة عشان يطلب إيد بنتهم لإبنه. بس لما شاف هالبنت في بيت العيلة اللي راح يخطب منها دغري عجبته وطلب إيدها تكون زوجته التانية. هادي كانت أمي. أما أخوي غير الشقيق فتزوج اختها.

بيكمل محروس حكي: وبيوم باعو قطعة من الأرض في رفح وانتقلو على السهول الساحلية لقرية العباسية محل ما الحياة كان مفروض تكون أسهل. أبوي وكل عمامي عملو نفس الإشي. بتعرفي، كانت الأمور زي ما هي اليوم كيف ما الناس بتهاجر على كندا أو أستراليا بس قبل هيك ببيعو كل ممتلكاتهم وبصيرو مواطنين في المحل الجديد. همممم، إمتى؟ يمكن في سنة 1943. أنا مش متأكد من السنة بالزبط بس كانت في أوائل الأربعينات.

 ليش أبوه وامه لمحروس حسو إنهم لازم يتركو رفح؟

محروس بكمل وبقول: “انا لاجئ من فلسطين، أبوي وأمي من رفح؟ لا، هادا بغيرش إشي. كتير ناس أجو لفلسطين من سورية ومصر وتركيا بس أي حدا انولد في فلسطين وانجبر يترك أرضه رح يقلك إنو فلسطيني. وأنا كمان لاجئ فلسطيني، مزبوط معك حق، غزة جزء من فلسطين بس فلسطين اللي بحكي عنها هي فلسطين البلاد اللي راحت. ولأ متملكوش أي أرض في العباسية، خلال فترة الانتداب أبوي وعمامي الأربعة اشتغلو بقطع الشجر للجيش الإنجليزي وهادا كان شغل صعب عشان مكنش فيه مناشير كهربا وكمان اشتغلو بتعمير خطوط كهربا وخطوط تلفون وكانو الأنجليز بدهم كتير خشب.

ليش الغابات في فلسطين تقريبا اختفت؟

النكبة

“أبوي كان لسة شب لما وقعت الحرب في 1947 وميليشيا الأرغون الصهيونية هاجمت قرية العباسية مع قرى تانية في المنطقة في 13 كانون الأول 1947. بوقتها 24 صهيوني تنكروا بالبدل العسكرية تبعت الجيش البريطاني وتسللو على القرية وحطو قنابل في البيوت ورمو قنابل يدوية على بيوت تانية بينما جزء تاني من الميليشيا فتح النار على القرويين اللي كانو قاعدين في القهوة. لما راحو الأرغون تركو وراهم سيارة مفخخة انفجرت في القرية. على الأقل أربعطعشر شخص انقتلو بهداك الهجوم.

شو صار بالعباسية وبسكانها الفلسطينيين بالشهور اللي بعد هيك؟

لما أبو وام محروس كانو في رفح يستنو يرجعو على العباسية كان حوالي 4000 مهاجر يهودي بستقرو في قرية الفلسطينيين السابقة. حوالي اطنعشر قرية مهجرة سكنو فيهم اليهود اللي وصلو جديد من أوروبا والشرق الأوسط وحضورهم كان ضروري عشان يضمو إنو السكان الأصليين ميرجعوش أبدا، وكمان عشان تقوي حجج إسرائيل وادعائها إنه الأراضي هادي إلها في أي مفاوضات مستقبلية.

في رفح عشنا في مخيم لاجئين في بلوك رقم واحد. خمس سنين كنا تمن أشخاص في خيمة وحدة وكلنا معتمدين على المساعدات تبعة الأمم المتحدة. بس في بداية الخمسينات بدت الأمم المتحدة تبني بيوت قريبة كتير من بعضها والناس كانت فوق بعضها. الحمامات كانت مشتركة بين كتير عائلات والظروف كانت صعبة كتير. مع الوقت بنت الأمم المتحدة مدارس ومستشفيات.

وبينما المهاجرين اليهود اللي انتقلو على فلسطين حاولو يستقرو بأسرع وقت ممكن بتشجيع كبير من دولة إسرائيل، الفلسطينيين مكانوش حابين يستقرو في مخيمات اللاجئين ولسنين مكنش في محاولات لتوفير أي بنى تحتية دائمة لأن كتير منهم توقع رجعتهم بعد كم اسبوع.

1967: حرب الأيام الستة والاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة

محروس: بدك قهوة؟
دلال: لا بقدرش عشان عندي ضغط دمي عالي.
محروس: ميار حبيبتي يلا روحي لعند ابوكي.. يييييه… لعند عمك، يلا. في كتير ضجة. بس خلينا نكمل قصتنا. كنا خلصنا آخر امتحان في الثانوية العامة لما بدت حرب الأيام الستة. انطلب منا نتطوع وحطونا جنب أراضي المزارع. فجأة وتقريبا فوق روسنا مرق موكب طيارات أجا من الشمال وكان رايح باتجاه مصر. بعدها بشوية أجت الدبابات والناس كانو مرتبكين لأن الدبابات الإسرائيلية وصلت بأعلام عراقية وجارنا راح يحييهم فقامو طخوه فمات على المطرح. معرفناش كيف نخلي المتصاوبين والقتلى وحتى إنه حطينا زلمة متصاوب على حمار ورحنا ندور على أمل نلاقي دكتور.

ليش الدبابات الإسرائيلية كان عليها أعلام عراقية؟

دلال: “كان عمري عشرين سنة بهديك الأيام ومكنتش لسا متجوزة. في صاحب لأبوي أجا عنا على البيت ومعاه حمار وقال النا إنه كان كتير تعبان وكتير كبير وبقدرش يهرب. طلب منا نهرب وقلنا إنه مش سائل إذا بقتلوه ولا بقتلوهوش بس هو مش قادر يهرب أكتر من هيك. ضل الزلمة في بيتنا مع الحمار واحنا هربنا. أمي قادتنا برا البيت ورحنا تخبينا جنب البحر. قضينا يومين بنمشي وبندور على محل آمن وبنتخبى تحت شجر الجوافة والطيارات بتطير فوق روسنا. جيرانا هربو بعدينا بشوية ولحقونا. قالولنا إنو دارنا راحت واليهود فجروها. كان رد أمي الوحيد: “الله يكون بالعون”. قعدنا متخبيين جنب البحر خمسطعشر يوم. مرة سمعنا بمكبرات الصوت بيحكو الجيش إنه صار آمن نرجع فقمنا رجعنا على بيتنا. كان مدمر والزلمة الختيار صاحب ابوي كان ميت. في حدا قاللنا إنه لما الجيش أجا وفجر البيت الحمار صار ينهق بس الزلمة الختيار كان نايم ومفقش. على الجهة الغربية من بيتنا كان في شجرتين برتقان معجزين. مكنش في محل تاني نروح عليه فقعدنا تحت الشجرات واستنينا. بعد أربع أيام أجا إبن الزلمة الختيار عشان يدفن أبوه.

حرب الأيام الستة خلصت وإسرائيل استولت على رقع واسعة من الأراضي وفرضت احتلال عسكري على شبه جزيرة سينا وقطاع غزة والضفة الغربية بما فيها شرقي القدس ومرتفعات الجولان اللي ضمتهم إلها لاحقا. محروس بكمل: “من هداك الوقت لهلأ الناس اعتمدت على الشغل بإسرائيل وحتى سنة 1992 لما بدو يسكرو غزة. زي ما قلت، أنا اتجوزت بعد بسنة من الحرب وانا كمان اشتغلت بإسرائيل لانو كان عندي عيلة لازم أدير بالي عليها. بوقت الانتفاضة الأولى الجنود بدو يسكرو الطرق ببلوكات الإسمنت وصار أصعب وأصعب للواحد يوصل على موقع الشغل تبعو. أول التسعينات إسرائيل بدت تنفذ أول عناصر سياسة الاغلاق تبعتها قبل بزمان مما وصلت حماس للسلطة في سنة 2007. سنين الانتفاضة الثانية كانت صعبة ومافيش عيلة مرقت بهادا الوقت بدون أضرار. ابن أخوي الأطرش انقتل وكمان جارنا، كتير ناس انسجنت. بس إيش ما نجي بوقت الانتفاضة السابقة أو الاعتداءات الاسرائيلية اللي بعد هيك، اتأثر بعدوان 2014”.

العدوان الإسرائيلي في 2014

العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بدا في 8 تموز 2014. بعد أسبوعين في ساعات الصبح بكير عيلة صيام هربو من بيتهم عشان كان القصف بقرب عليهم أكتر وأكتر. بالزبط لما كانو طالعين من البيت وباديين يهربو تم استهدافهم من الجو.

البيت

معتز وميار، الولاد التنين الصغار بعملو كتير ضجة وبلعبو بالباب القزاز اللي بفصل الليوان عن الباحة الخارجية المسقوفة تبعت بيت عيلة صيام. الكبار بالعادة صبورين معهم وما بعزروهم. كمان لما يحاولو يلفتو الانتباه بالعادة بحصلو عليه على طول. رفيق ميار في اللعب معتز عمره سنتين ونص عادة ما بعيط بطريقة مزعجة. كان عمره خمس شهور بس لما أمه انقتلت في العدوان. ميار بتركض على الغرفة وبتنادي ستها دلال ماما. بس “ماما” دلال بتسألها: شو فيه يا حبيبتي؟ فبتجاوبها ميار باهتمام. دلال بتحكي:” ميار مش فاهمة شو صار”.

بس بظهر انه ميار بتفهم على الأقل بعض من اللي صار. كانت تبكي كتير وتصرخ وتنادي: ماما، بابا! بس أبوها وأمها ما بقدروا يجو يواسوها. مرات وهي ميار بتركض في البيت بتلاحظ صورهم اللي معلقة فوق على الحيطة مع صور أفراد العيلة التانيين اللي انقتلو. بتوقف قبالهم وبتبحلق فيهم وبتبحلق وبعدين بتصير تغمغم وتطلع أصوات عالية وبضل صوتها يعلى عبين ما حد يجي يحملها ويرفعها قدام الصور فتقوم تبوس صورة أبوها وأمها.

العيد

24 أيلول 2015

وهادي قصة المختار محروس صيام. اليوم تالت يوم بالعيد، عيد سعيد!
في شب متجور جديد أجاني وقلي: هادا اليوم تالت يوم بالعيد وأنا لسا مدقتش اللحمة، واللحمة مدخلتش بيتي! أكيد أنا حاولت أساعدو وهادا شغلي كمختار. بس هادا أصعب عيد أجا علينا حسب ما بظن. مبارح كنت بحاول أصلح بين عيلتين تقتلو بالشوارع، بتعرفي ليش؟ عشان عشرة شيكل. لو تعرفي قديش الناس محبطة وخاصة بأيام العيد. الناس اليوم فقرا، أفقر من قبل وكلشي محتاجيتو عشان تحتفل بالعيد صار كتير غالي: اللحمة والأواعي وأكتر العيل في منطقتنا بتقدرش تضحي بمعزة أو خروف. بس أنا واجبي اتقاسم انا واياهم وأشاركهم كمختار. أنا اشتغلت بعدد من المؤسسات و قدرنا نجمع 200 شقفة لحمة. صوت عالي كتير بمائي قطع المحادثة.

الوقت تأخر والمؤذن بنادي على الصلاة ومحروس بدو يروح على المسجد. طعمى المعزات واتصلنا بتاكسي. استنينا وحكينا عن أسعار اللحمة والبنزين والأواعي المرتفعة وكل مشاكل العيل اللي هو توسط لحلها كمختار. كانت عتمة برة والكهربا مقطوعة عن رفح. هيك هي غزة الكهربا موجودة ست لتمن ساعات وبعدين بتقطع من ست لتمن ساعات تانيات. سمعنا صوت زامور بره عشان الشوفير تبع التكسي وصل ياخدنا. ودعنا محروس ودلال. لما طلعنا في السيارة قدرت أميز الشوفير وصوته من صور وفيديوهات آن باك. قابلت آن الشوفير تقريبا قبل سنة. كان اسمه نبيل. زرت بيت عيلة صيام تلات مرات ومعمريش شفتو هناك. قاللنا: كتير الواحد صعب يقعد بالبيت. كان يدخن ويسوق وكل هادا بايد وحدة بطريقنا لمدينة غزة.